يقول: "والوجه في انحصار القسمة في هذه الأنواع -فإن كثيراً من الكلمات المهمة تقع الفتيا فيها مختلفة والرأي مشتبهاً لفقد التمييز والتفضيل- أن كل شيء إما أن نقيده من جهة الخصوص أو العموم أو الإطلاق" هذه قاعدة عظيمة، وهي: أن كثيراً من الكلمات تقع الفتيا فيها مختلفة والرأي مشتبهاً، لفقد التمييز والتفضيل، أي بسبب أن المفتي أطلق الكلام ولم يفصل، ولهذا نجد كثيراً من الناس يتحدث في قضايا ويظن أنه قد أتى بغاية العلم، فإذا سئل عن التفصيل فقيل له: ماذا تعني بهذا؟ توقف وقال: لا أدري أن فيها تفصيلاً، فلذلك لابد أن يفقه الإنسان ما كان فيه تفصيل ويتناول كل مسألة بحسبها. قال: "فإذا قلت: بشر وملك، إما أن تريد هذا البشر الواحد فيكون خاصاً، أو جميع جنس البشر فيكون عاماً، أو تريد البشر مطلقاً مجرداً عن قيد العموم والخصوص، والقليل والكثير. والنوع الأول في التفضيل عموماً وخصوصاً، والثاني عموماً، والثالث خصوصاً، والرابع في الحقيقة المطلقة المجردة" أي: هذه الأقسام الأربعة النوع الأول منها في التفضيل عموماً وخصوصاً، والثاني في التفضيل العام، والثالث في التفضيل الخاص، والرابع في الحقيقة المطلقة المجردة أي: الماهية، بغض النظر عن الذوات والأعيان. يقول: "فنقول حينئذٍ: المسألة على هذا الوجه لست أعلم فيها مقالة سابقة مفسرة، وربما ناظر بعض الناس على تفضيل الملك، وبعضهم على تفضيل البشر، وربما اشتبهت هذه المسألة بمسألة التفضيل بين الصالح وغيره" أي: مسألتان، مسألة المفاضلة العامة، ومسألة المفاضلة بين صالحي البشر والملائكة. "لكن الذي سنح لي -والله أعلم بالصواب- أن حقيقة الملك أكمل وأرفع، وحقيقة الإنسان أسهل وأجمع. وتفسير ذلك: أننا إذا اعتبرنا الحقيقتين وصفاتهما النفسية والتبعية اللازمة الغالبة: الحياة والعلم والقدرة في اللذات والشهوات، وجدنا أولاً: خلق الملك أعظم صورة، ومحله أرفع، وحياته أشد، وعلمه أكثر، وقواه أشد، وطهارته ونزاهته أتم، ونيل مطالبه أيسر وأتم، وهو عن المنافي والمضاد أبعد، لكن تجد هذه الصفات للإنسان -بحسب حقيقته- منها أوفر حظ ونصيب من الحياة والخلق والعلم والقدرة والطهارة وغير ذلك، وله أشياء ليست للملك من إدراكه دقيق الأشياء حساً وعقلاً، وتمتعه بما يدركه ببدنه وقلبه، وهو يأكل ويشرب وينكح، ويتمنى ويتغذى ويتفكر، إلى غير ذلك من الأحوال التي لا يشاركه فيها الملك"، أي أن الحقيقة البشرية أكثر سعة وتنوعاً، والحقيقة الملكية كأنها محصورة في طهارة وفضل وعبادة محدودة، لكن الإنسان حقيقته أعم من ذلك بكثير، فهو يتزوج ويعمل ويتعبد، فهو يشارك الملائكة في صفات، وينفرد عنهم بصفات كثيرة جداً، وبعضها فضائل وكمالات لا توجد في الملك. يقول: "لكن حظ الملك من القدر المشترك بينهما أكثر، وما اشتركا فيه من الأمور أفضل بكثير مما اختص به الإنسان". فترجع المقارنة إلى أن الصفات المشتركة الملكية أكمل، لكن الإنسان أوسع فيما عدا ذلك مما لم يشتركا فيه.